هل سيصبح شعار"تطبيق الشريعة" بمثابة شماعة لتعليق الأخطاء مثلما كان يحدث على طريقة نخب الحكم الاستبدادي في العقود السابقة حين صنعت قضايا كبرى من قبيل القومية العربية، والأمن القومي والصراع العربي الإسرائيلي دون البحث عن حلول جذرية للمشكلات الحقيقية في مجتمعاتها؟ نلمح تشابهاً هنا يدورفي عقلية النخبة الجديدة القادمة ممثلة في الإسلاميين الذين فازوا بأغلب مقاعد المجالس النيابية، سواء في مصر أو في تونس أو في المغرب، بأنهم جاءوا ليطبقوا الشريعة بدلا من أن يعملوا على نهضة مجتمعاتهم ويأخذوها من واقع الفقر والجهل والتخلف إلى مصاف التقدم، وهو نهج لا يتعارض بطبيعة الحال مع جوهر الدين الذي تحول لديهم إلى (تابو أو مُحرَّم) تحت مسمى الشريعة والتي لا ندري ما هي على وجه التحديد، هل هي شريعة الإخوان أم السلفيين أم الجماعات الإسلامية أم شريعة المعتدلين؟ وهل القادمون الجدد بمثابة أنبياء جدد أتوا بدين جديد لم يكن معروفاً لمجتمعات كانت كافرة؟ حمل هذه المقولات بعمومياتها المطلقة يشكل خطورة ويطرح الكثير من التساؤلات، لكونها تسيرعلى نهج أضرّ أكثر بكثير مما أفاد في السابق حين قام بإطلاق المقولات الكبرى في سبيل تبرير الفشل وخلق شرعية للاستبداد. ومن ناحية أخرى، فهم يهينون بنهجهم هذا مجتمعات هي بطبيعتها تعرف الشرْع أكثر ممن ينادون بتطبيقه، فالاديان بتنويعاتها المختلفة، السماوي منها والأرضي، تتسم جميعاً بسمة متشابهة بكونها أدياناً تسعى نحو غرس القيمة في النفس البشرية سيراً على الفطرة التى خُلق الإنسان عليها في تمييزه ما بين الشر والخير. وجاء الدين الاسلامي ليحث على جوهر القيم دون الاهتمام بالشكليات التي باتت، على ما يبدو، هي الأساس الآن عند الإسلاميين الجدد. فهو لا يقترن الا بالإخلاص فيه بعيداً عن المظهرية والشكلية و انطلاقاً من تدشين القيم الكثيرة التي يحفل بها ؛ كقيم العدل والمساواة وحتى الحرية الشخصية، فهذه كلها مبادئ دشنها الإسلام وحث عليها في الآيات القرآنية، سواء بطريق مباشرأو غير مباشر، فهو ينتصر للكرامة الإنسانية أياً كانت مسلمة أو غير مسلمة، وينتصر للعدل أياً كان الفرد دون تمييزعلى أي أساس ديني أو عرقي. وهو في نفس الوقت ينتصر للمساواة دون أن ينتقص من حق المجتهد، المساواة المقرونة بالعدل ، فلكل مجتهد نصيب. وهذه القيم في معظمها لا تختلف عن القيم والأفكار التي حاول المفكرون الغربيون أن يدشنوها وووصلوا إليها بعقولهم ثم تم ترجمتها في شكل مؤسسات لتحققها واقعياً نظراً لتعقد تفاعلات البشر في الحياة.
ومن هنا يأتي السؤال، فبدلاً من أن يُعمل الإسلاميون الجدد عقولهم بدخولهم حقل السياسة بأن ينأوا به بعيداً عن الشريعة بشكلها القديم، والتي لم يحدث فيها تجديد من عشرات القرون، ويحاولوا أن يستمدوا تفسيراتهم وشروحهم لها من مشكلات الواقع وليس من تفسيرات الماضي، ويقارنوا ما بين الدين الاسلامي من حيث القيم التي جاء بها والقيم الحديثة التي جاء بها فلاسفة الحضارة الحديثة، والذين بدورهم استمدوا جوهرها من التراث الديني والإنساني وطوروها في المجالات المختلفة وجردوها لتكون معبرة عن القيم التي تصب في صالح كرامة الانسان المقدسة في الدين الاسلامي، نجدهم على العكس من هذا يصرون على تحكيم الماضي ومقاطعة الحاضر. إلا انه يبدو أن التقديس لم يتعد الأقوال إلى الأفعال وبالأخص عند هؤلاء الذين يحملون في تبريراتهم وتشريعاتهم أدوات إهانة لهذا الإنسان، سواء في عقله أو جنسه أو في المختلف فيه دينياً، وهي كلها أمور تتعارض مع جوهر هذا الدين الذي جاء معظم خطابه للناس والبشر في دعوته إلى القيم ليؤكد حقيقة الاختلاف بين البشر، وحقيقة وحدة القيم التي تشمل البشر دون تمييز على أي أساس كان.
فإذا كان الإسلاميون الجدد يفتحون الباب للحديث عن الشريعة، فرب ضارة نافعة. فليعاودوا النظر في نظرتهم لها من ناحية اعتبار مدرسة التفسير للشريعة التي يؤمنون بها هي الشريعة نفسها، فهناك مبدأ يجب التسليم به وهو المبني على الاختلاف في التفسيرات وهذا أمر صحي لكونه يقلل من التشدد، فالاختلاف هنا ليس حول جوهر القيم وإنما حول وسيلة تحقيق القيمة والتي تتحول في الكثير من التفسيرات المتشددة الى التعدي على القيمة نفسها، مثل قيمة الحرية التي نجد فيها تعدياً من قبل المتشددين الإسلاميين في رؤيتهم للأخر وضرورة فرض إطار معين من السلوك على الافراد.
فالشريعة تعني تطبيق القيم لا تطبيق المظاهر والشكلانية، فهي قيمة حرية الاختيار التى جاءت بهم عبر صندوق الانتخاب والتي كانوا يكفرون بها في السابق. ليست الشريعة قالباً يتم تفصيله على البشر، بل هي العمل على الحفاظ على كرامة الانسان أياً كان دينه بكل ما يتوفر من سبل لإحداث نهضة للقضاء على الفقر، و رفع مستوى التعليم والاستفادة إلى أقصى حد من نعمة العقل. فشرع الله يتحقق بتحقيق هذه الكرامة للانسان والتي بدورها، ولا ندرى لأي سبب، غير متحققة في هذه المجتمعات التي تدين بالاسلام على عكس مجتمعات أخرى يسمونها كافرة تُعلي من قيمة الانسان وكرامته بإعلائها القيم الأساسية مثل العدل والحرية. فهل يترك الاسلاميون هذه المقولات الفضفاضة ويبرهنون على صدقهم بما يحققونه على أرض الواقع من برامجهم في شأن إعلاء كرامة الإنسان؟ أم ان فضفاضية الرؤية لديهم هي جزء مركب من ثنائية الاستبداد التي تتشكل وتتعمق في عقول وثقافة هذه المجتمعات بشقيها السياسي والدينى، ومن ثم فالخروج منه لا يتم الا بتفكيك هذه العموميات وترجمتها الى واقع فعلي مُعاش يشعر بالأفراد بصيغة تعكس كرامتهم وإنسانيتهم..